سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


هذه السورة مكية بلا خلاف، وعن عبد الله: الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد. ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر {قل كل متربص فتربصوا} قال مشركو قريش: محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى {اقترب للناس حسابهم}، و{اقترب} افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول: ارتقب ورقب. وقيل: هو أبلغ من قرب للزيادة التي في البناء. والناس مشركو مكة. وقيل: عام في منكري البعث، واقتراب الحساب اقتراب وقته والحساب في اللغة إخراج الكمية من مبلغ العدد، وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقتراباً لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب، وإنما البعيد هو الذي انقرض أو هو مقترب عند الله كقوله {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} أو باعتبار ما بقي من الدنيا فإنه أقصر وأقل مما مضى. وفي الحديث: «بعثت أنا والساعة كهاتين» قال الشاعر:
فما زال من يهواه أقرب من غد *** وما زال من يخشاه أبعد من أمس
و {للناس} متعلق باقترب. وقال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم: لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب، وأما جعله اللام تأكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحداً يقول ذلك، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه، وأيضاً فالتوكيد يكون متأخراً عن المؤكد وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح. وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص، وعليك الثانية متأخرة توكيداً وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب، وفيك الثانية توكيد، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس. وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدّم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله، وأمّا لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة، وقد أمعنّا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في {وهم} واو الحال.
وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولاً أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم. ثم أخبر عنهم ثانياً أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك، والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء. وقيل المراد بالذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره ووصفه بالحدوث إذا كان القرآن لنزوله وقتاً بعد وقت. وسئل بعض الصحابة عن هذه الآية فقال محدث النزول محدث المقول. وقال الحسن بن الفضل: المراد بالذكر هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدليل {هل هذا إلا بشر مثلكم} وقال: {قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً} وقد احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بقوله {محدث} وهي مسألة يبحث فيها في علم الكلام. وقرأ الجمهور {محدث} بالجر صفة لذكر على اللفظ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال {من ذكر} إذ قد وصف بقوله {من ربهم} ويجوز أن يتعلق {من ربهم} بيأتيهم. و{استمعوه} جملة حالية وذو الحال المفعول في {ما يأتيهم} {وهم يلعبون} جملة حالية من ضمير {استمعوه} و{لاهية} حال من ضمير {يلعبون} أو من ضمير {استمعوه} فيكون حالاً بعد حال، واللاهية من قول العرب لهى عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهياً ولهياناً، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى {لاهية} بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله {وهم}.
و {النجوى} من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى {وأسرّوا} بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون. وقال أبو عبيد: {أسروا} هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق:
فلما رأى الحجاج جرد سيفه *** أسر الحروري الذي كان أضمرا
وقال التبريزي: لا يستعمل في الغالب إلاّ في الإخفاء، وإنما {أسروا} الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إن ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب {الذين ظلموا} وجوهاً الرفع والنصب والجر، فالرفع على البدل من ضمير {وأسروا} إشعاراً أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل، والواو في {أسروا} علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما. قيل وهي لغة شاذة. قيل: والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله {ثم عموا وصموا كثير منهم}
وقال شاعرهم:
يلومونني في اشتراء *** النخيل أهلي وكلهم ألوم
أو على أن {الذين} مبتدأ {وأسروا النجوى} خبره قاله الكسائي فقدّم عليه، والمعنى: وهؤلاء {أسروا النجوى} فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول {الذين ظلموا} والقول كثيراً يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم. وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا. وقيل: {الذين} خبر مبتدأ محذوف، أي هم {الذين} والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم. والجر على أن يكون نعتاً للناس أو بدلاً في قوله {اقترب للناس} قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.
{هل هذا إلاّ بشر مثلكم} استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكاً. و{أفتأتون السحر} استفهام معناه التوبيخ و{السحر} عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم، أي أفتحضرون {السحر وأنتم تبصرون} أنه سحر وأن من أتى به هو {بشر مثلكم} فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله: {وأسروا النجوى} وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
وقال الزمخشري: في محل النصب بدلاً من {النجوى} أي {وأسروا} هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير {قال ربي} على معنى الخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام. وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم {يعلم} أقوالكم هذه، وهو يجازيكم عليها و{القول} عام يشمل السر والجهر، فكان في الإخبار بعلمه القول علم السر وزيادة، وكان آكد في الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم سرهم. ثم بين ذلك بقوله {وهو السميع العليم} {السميع} لأقوالكم {العليم} بما انطوت عليه ضمائركم.
ولما ذكر تعالى عنهم أنهم قالوا إن ما أتى به سحر ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه و{قالوا} ما يأتي به إنما هو {أضغاث أحلام} وتقدم تفسيرها في سورة يوسف عليه السلام، ثم أضربوا عن هذا فقالوا {بل افتراه} أي اختلقه وليس من عند الله، ثم أضربوا عن هذا فقالوا {بل هو شاعر} وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيراً، وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث انتهى. وقال ابن عطية ثم حكى قول من قال إنه شاعر وهي مقالة فرقة عامّية لأن بنات الشعر من العرب لم يخف عليهم بالبديهة، وإن مباني القرآن ليست مباني شعر. وقال أبو عبد الله الرازي: حكى الله عنهم هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزاً.
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} قال الزمخشري: صحة التشبيه في قوله {كما أرسل الأولون} من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة، وأن تقول: أرسل محمد بالمعجزة انتهى. والكاف في {كما أرسل} يجوز أن يكون في موضع النعت لآية، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال {الأولين}، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتياناً مثل إرسال {الأولين} أي مثل إتيانهم بالآيات، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعدها. وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم {كما أرسل الأولون} دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل.
ثم أجاب تعالى عن قولهم {فليأتنا بآية} بقوله {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما، ومعنى {أهلكناها} حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات {أفهم يؤمنون} استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين.
ولما تقدم من قولهم {هل هذا إلا بشر مثلكم} وأن الرسول لا يكون إلاّ من عند الله من جنس البشر قال تعالى راداً عليهم {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً} أي بشراً ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، ثم أحالهم على {أهل الذكر} فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر.
وقوله {إن كنتم لا تعلمون} من حيث إنّ قريشاً لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم. والظاهر أن {أهل الذكر} هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فشهادتهم لا مطعن فيها. وقال عبد الله بن سلام: أنا من أهل الذكر. وقيل: هم أهل القرآن. وقال علي: أنا من أهل الذكر. وقال ابن عطية: لا يصلح أن يكون المسؤول أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم انتهى. وقيل {أهل الذكر} هم أهل التوراة. وقيل: أهل العلم بالسير وقصص الأمم البائدة والقرون السالفة، فإنهم كانوا يفحصون عن هذه الأشياء وإذا كان {أهل الذكر} أريد بهم اليهود والنصارى فإنهم لما بلغ خبرهم حد التواتر جاز أن يسألوا ولا يقدح في ذلك كونهم كفاراً.
وقرأ الجمهور: يوحي مبنياً للمفعول. وقرأ طلحة وحفص {نوحي} بالنون وكسر الحاء و{الجسد} يقع على ما لا يتغذى من الجماد. وقيل: يقع على المتعذي وغيره، فعلى القول الأول يكون النفي قد وقع على {الجسد} وعلى الثاني يكون مثبتاً، والنفي إنما وقع على صفته ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال: ذوي ضرب من الأجساد، وهذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وهذه الجملة من تمام الجواب للمشركين الذين قالوا {هل هذا إلاّ بشر مثلكم} لأن البشرية تقتضي الجسمية الحيوانية، وهذه لا بد لها من مادة تقوم بها، وقد خرجوا بذلك في قولهم {هل هذا إلاّ بشر مثلكم} يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولما أثبت أنهم كانوا أجساداً يأكلون الطعام بين أنهم مآلهم إلى الفناء والنفاد، ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أو البقاء المدة المتطاولة أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر، والذي صاروا به رسلاً هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.
{ثم صدقناهم الوعد} ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين و{صدقناهم الوعد} من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في {الوعد} وهو باب لا ينقاس عند الجمهور، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير {صدقناهم الوعد} قولهم: صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيداً الحديث و{من نشاء} هم المؤمنون، والمسرفون هم الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم، وكل من ترك الإيمان فهو مفرط مسرف وإنجاؤهم من شر أعدائهم ومن العذاب الذي نزل بأعدائهم.
ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} والكتاب هو القرآن. وعن ابن عباس: {ذكركم} شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وعن الحسن ذكر دينكم، وعن مجاهد فيه حديثكم، وعن سفيان مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل: تذكرة لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب. وقال صاحب التحرير: الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد، فعلى هذا تكون الآية ذماً لهم وليست من تعداد النعم عليهم، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله {هل هذا إلاّ بشر مثلكم} {أفلا تعقلون} إنكاراً عليهم على إهمالهم المتدبر والتفكر المؤديين إلى اقتضاء الغفلة. وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما نذكر عظام الأمور، وفي هذا تحريض ثم أكد التحريض بقوله {أفلا تعقلون} وحركهم بذلك إلى النظر. وقال الزمخشري نحوه قال: {ذكركم} شرفكم وصيتكم كما قال {وإنه لذكر لك ولقومك} أو موعظتكم أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك.


لما رد الله تعالى عليهم ما قالوه بالغ تعالى في زجرهم بذكر ما أهلك من القرى، فقال: {وكم قصمنا} والمراد أهلها إذ لا توصف القرية بالظلم كقوله {من هذه القرية الظالم أهلها} قال ابن عباس: الإنشاء إيجاد الشيء من غير سبب أنشأه فنشأ وهو ناشئ والجمع نشاء كخدم، والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد {وكم} تقتضي التكثير، فالمعنى كثيراً من أهل القرى أهلكنا إهلاكاً شديداً مبالغاً فيه. وما روي عن ابن عباس أنها حضوراء قرية باليمن، وعن ابن وهب عن بعض رجاله أنهما قريتان باليمن بطر أهلهما فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية، لأن {كم} تقتضي التكثير. ومن حديث أهل حضوراء أن الله بعث إليهم نبياً فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه، ثم خرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة، فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.
{فلما أحسوا بأسنا} أي باشروه بالإحساس والضمير في {أحسوا} عائد على أهل المحذوف من قوله {وكم قصمنا من قرية} ولا يعود على قوله {قوماً آخرين} لأنه لم يذكر لهم ذنب يركضون من أجله، والضمير في {منها} عائد على القرية، ويحتمل أن يعود على {بأسنا} لأنه في معنى الشدة، فأنث على المعنى ومن على هذا السبب، والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين. قيل: ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فهم {يركضون} الأرض بأرجلهم، كما قال {اركض برجلك} وجواب لما {إذا} الفجائية وما بعدها، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف، وقد تقدم لنا القول في ذلك.
وقوله: {لا تركضوا} قال ابن عطية: يحتمل أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة، فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤا بهم بأن قالوا للهاربين منهم: لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم {لعلكم تسألون} صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبيّ المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم، هذا كله مروي ويحتمل أن يكون قوله: {لا تركضوا} إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حضوراء ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يتخاصموا ويسألوا عن وجه تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم.
{لا تركضوا وارجعوا} {لعلكم تسألون} كما كنتم تطمعون لسفه آرائكم.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون يعني القائل بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين، أو يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
{وارجعوا إلى ما أترفتم فيه} من العيش الرافه والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفة {لعلكم تسألون} غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو {ارجعوا} واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم: بم تأمرون وماذا ترسمون، وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع، ويستمطرون سحائب أكفكم ويميرون إخلاف معروفكم وأياديكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ انتهى.
ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا: يا ويل هذا زمانك، وتقدم تفسير الويل في البقرة. والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك، واسم {زالت} هو اسم الإشارة وهو {تلك} وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى {دعواهم}. قال المفسرون: فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} والدعوى مصدر دعا يقال: دعا دعوى ودعوة كقوله {وآخر دعواهم} لأن المويل كأنه يدعو الويل. وقال الحوفي: وتبعه الزمخشري وأبو البقاء: {تلك} اسم {زالت} و{دعواهم} الخبر، ويجوز أن يكون {دعواهم} اسم {زالت} و{تلك} في موضع الخبر انتهى. وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان، فإذا قلت: كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر، كقولك: ضرب موسى عيسى، فموسى الفاعل وعيسى المفعول، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف بابن الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون {تلك} اسم {زالت} و{دعواهم} الخبر.
وقوله: {حصيداً} أي بالعذاب تركوا كالصحيد {خامدين} أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا طفئت و{حصيداً} مفعول ثان. قال الحوفي: و{خامدين} نعت لحصيداً على أن يكون {حصيداً} بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع، قال: ويجوز أن يجعل {خامدين} حالاً من الهاء والميم.
وقال الزمخشري: {جعلناهم} مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول: جعلناهم رماداً أي مثل الرماد، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جميعاً على المفعولية. فإن قلت: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك: جعلته حلواً حامضاً جعلته للطعمين، وكذلك معنى ذلك {جعلناهم} جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى.
ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة أتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه إنما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب من صنعه وغرائب من فعله، وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} وقوله {ما خلقناهما إلاّ بالحق} قال الكرماني: اللعب فعل يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء، وليستدل بهما على الوحدانية والقدرة انتهى. و{لو أردنا أن نتخذ لهواً} أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى، وقد يكنى به عن الجماع، وأما هنا فعن ابن عباس والسدّي هو الولد. وقال الزجاج: هو الولد بلغة حضرموت. وعن ابن عباس: إن هذا رد على من قال {اتخذ الله ولداً} وعنه أن اللهو هنا اللعب. وقيل: اللهو هنا المرأة. وقال قتادة: هذا في لغة أهل اليمن، وتكون رداً على من ادعى أن لله زوجة ومعنى {من لدنا} من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى. وقال السدّي: من السماء لا من الأرض. وقيل: من الحور العين. وقيل: من جهة قدرتنا. وقيل: من الملائكة لا من الإنس رداً لولادة المسيح وعزير. وقال الزمخشري: بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي أن الحكمة صارفة عنه، وإلاّ فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلاً لأني على كل شيء قدير انتهى. ولا يجيء هذا إلاّ على قول من قال: اللهو هو اللعب، وأما من فسره بالولد والمرأة فذلك مستحيل لا تتعلق به القدرة. والظاهر أن {أن} هنا شرطية وجواب الشرط محذوف، يدل عليه جواب {لو} أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله. وقال الحسن: وقتادة وجريج {أن} نافية أي ما كنا فاعلين.
{بل نقذف} أي نرمي بسرعة {بالحق} وهو القرآن {على الباطل} وهو الشيطان قاله مجاهد، وقال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.
وقيل: بالحق بالحجة على الباطل وهو شبههم ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: الحق عام في القرآن والرسالة والشرع، والباطل أيضاً عام كذلك و{بل} إضراب عن اتخاذ اللعب واللهو، والمعنى أنه يدحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه أي أصاب دماغه، وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل. وقرأ عيسى بن عمر {فيدمغه} بنصب الغين، قال الزمخشري: وهو في ضعف قوله:
سأترك منزلي لبني تميم *** وألحق بالحجاز فأستريحا
وقرئ {فيدمُغه} بضم الميم انتهى. و{لكم الويل} خطاب للكفار أي الخزي والهم مما تصفون أي تصفونه مما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد ونسبة المستحيلات إليه. وقيل {لكم} خطاب لمن تمسك بتكذيب الرسل ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، وهو المعنى بقوله {مما تصفون} وأبعد من ذهب إلى أنه التفات من ضمير الغيبة في {فما زالت تلك دعواهم} إلى ضمير الخطاب، ثم أخبر تعالى أن من في السموات والأرض ملك له فاندرج فيه من سموه بالصاحبة والولد ومن عنده هم الملائكة، واحتمل أن يكون معطوفاً على {من} فيكونون قدر اندرجوا في الملائكة بطريق العموم لدخولهم في {من} وبطريق الخصوص بالنص على أنهم من عنده، ويكون {لا يستكبرون} جملة حالية منهم أو استئناف إخبار، واحتمل أن يكون ومن عنده مبتدأ وخبره {لا يستكبرون} وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان، بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة، والظاهر أن قوله {وله من في السموات والأرض} استئناف إخبار بأن جميع العالم ملكه. وقيل: يحتمل أن يكون معادلاً لقوله {ولكم الويل مما تصفون} كأنه يقسم الأمر في نفسه أي للمتخلفين هذه المقالة الويل، ولله تعالى من في السموات والأرض انتهى.
والمراد أن الملائكة مكرمون منزلون لكرامتهم على الله منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم، ويقال: حسر البعير واستحسر كَلَّ وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم، وأحسرته أيضاً، وقال الشاعر:
بها جيف الحسرى فإما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب
قال الزمخشري: فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، وكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت: في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أخفاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون انتهى.
{يسبحون} هم الملائكة بإجماع الأمة وصفهم بتسبيح دائم. وعن كعب: جعل الله لهم التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر يقع منهم دائماً دون أن يلحقهم فيه سآمة، وفي الحديث: «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم».


لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته وأن من في السموات والأرض كلهم ملك له، وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته لا يفترون عن تسبيحه وعبادته، عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم و{أم} هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي {اتخذوا آلهة من الأرض} يتصفون بالإحياء ويقدرون عليها وعلى الإماتة، أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جماداً لا يتصف بالقدرة على شيء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة؟ قلت: الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلاّ القادر على كل مقدور، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله {من الأرض} قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك؟» فأشارت إلى السماء فقال: «إنها مؤمنة» لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكاناً لله تعالى. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت: لا بد من نكتة في قوله {هم} قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل {أم اتخذوا آلهة} لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى.
و {اتخذوا} هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و{من الأرض} متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناماً من الأرض كقوله {أتتخذ أصناماً آلهة} وقوله {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} وفيه معنى الإصطفاء والاختيار. وقرأ الجمهور: {ينشرون} مضارع أنشر ومعناه يحيون. وقال قطرب: معناه يخلقون كقوله {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقرأ الحسن ومجاهد {ينشرون} مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازماً تقول: أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في {فيهما} عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم.
و {إلا} صفة لآلهة أي آلهة غير {الله} وكون {إلا} يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله:
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال الزمخشري: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما {لفسدتا} وفيه دلالة على أمرين أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلاّ واحداً، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إياه وحده كقوله {إلا الله}.
فإن قلت: لم وجب الأمران قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر. وقال ابن عطية: وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال أن لا تتم جميعاً، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزاً وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلاً لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
وقال أبو عبد الله الرازي: لو فرضنا موجودين واجبيَ الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد مشاركاً للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته، فإذا واجب الوجود ليس إلاّ واحداً فكل ما عدا هذا فهو محدث، ويمكن جعل هذا تفسيراً لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك {لو كان فيهما} {إلا الله لفسدتا} ألا ترى أنك لو قلت: ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده.
وقيل: يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القوم إلاّ زيداً لقتلتهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى {لو كان فيهما} غير {الله لفسدتا}. والوجه الثاني أن {آلهة} هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى. وأجاز أبو العباس المبرد في {إلاّ الله} أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل. وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه: لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلاّ بمعنى غير التي بمعنى مكان. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون {إلاّ} في معنى غير الذي يراد بها البدل أي {لو كان فيهما آلهة} عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو {الله لفسدتا} وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى.
ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله {فسبحان الله} ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال {لا يسأل عما يفعل} إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلاّ ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب، وجاء {عما يفعل} إذ الفعل جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك، والظاهر في قوله {لا يسأل} العموم في الأزمان. وقال الزجّاج: أي في القيامة {لا يُسْأَل} عن حكمه في عباده {وهم يُسْأَلُون} عن أعمالهم. وقال ابن بحر: لا يحاسب وهم يحاسبون. وقيل: لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى. {وهم يسألون} لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيراً فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا.
وقرأ الحسن: لا يُسَل ويُسَلُون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة.
ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال: {أم اتخذوا من دونه آلهة} استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وزاد في هذا التوبيخ قوله {من دونه} فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكاً لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به {هذا ذكر من معي} أي عظة للذين معي وهم أمته {وذكر} للذين {من قبلي} وهم أمم الأنبياء، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون {هذا} إشارة إلى القرآن. والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم. والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي {هاتوا برهانكم} فهذا برهاني في ذلك ظاهر. وقرأ الجمهور: بإضافة {ذكر} إلى {من} فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله {بسؤال نعجتك} وقرئ بتنوين {ذكر} فيهما و{من} مفعول منصوب بالذكر كقوله {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين {ذكر} فيهما وكسر ميم {من} فيهما، ومعنى {معي} هنا عندي، والمعنى {هذا ذكر من} عندي و{من قبلي} أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم، ودخول {من} على مع نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه {من} كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول {من} على مع ولم ير لها وجهاً. وعن طلحة {ذكر} منوناً {معي} دون {مِن} {وذكر} منوناً {قبلي} دون {من}. وقرأت فرقة {وذكر من} بالإضافة {وذكر} منوناً {من قبلي} بكسر ميم من. وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق. وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن {أكثرهم لا يعلمون الحق} لإعراضهم عنه وليس المعنى {فهم معرضون} لأنهم لا يعلمون بل المعنى {فهم معرضون} ولذلك {لا يعلمون الحق} وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن {الحق} بالرفع. قال صاحب اللوامح: ابتداءً والخبر مضمر، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر. وقال ابن عطية: هذا القول هو {الحق} والوقف على هذه القراءة على {لا يعلمون}.
وقال الزمخشري: وقرئ {الحق} بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى.
ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل {من رسول} إلاّ جاء مقرراً لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة. ولما كان {من رسول} عاماً لفظاً ومعنى، أفرد على اللفظ في قوله إلاّ يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله {فاعبدون} ولم يأت التركيب فاعبدني، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوّات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام. وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير {نوحي} بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد. قيل: ونزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال {بل عباد مكرمون} ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيراً والمسيح، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم {عباد} والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم {مكرمون} مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرَّ منهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علواً كبيراً انتهى. وقرأ عكرمة {مكرمون} بالتشديد والجمهور بالتخفيف، وقرأ {لا يسبِقونه} بكسر الباء. وقرئ بضمها من سابقني فسبقته أسبقه، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله: فلا يسبق قولهم قوله. وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري: والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين.
{وهم بأمره يعملون} فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه {يعلم ما بين أيديهم} أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالماً بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة. قال ابن عباس: {يعلم} ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وقال نحوه عمار بن ياسر، قال: ما عملوا وما لم يعملوا بعد، وقيل {ما بين أيديهم} الآخرة {وما خلفهم} الدنيا. وقيل عكس ذلك. وقيل {يعلم} ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم.
ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلاّ لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم، ثم {هم} مع ذلك {من خشيته مشفقون} متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله.
وقال ابن عباس: {لمن ارتضى} هو من قال: لا إله إلا الله وشفاعتهم: الاستغفار. وقال مجاهد: لمن ارتضاه الله أن يشفع. وقيل: شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد. وقرأ الجمهور {نجزيه} بفتح النون. وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء {نجزي الظالمين} وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه، وأداة الشرط تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله {لئن أشركت}

1 | 2 | 3 | 4